سورة الواقعة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الواقعة)


        


{وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [الواقعة: 56/ 41- 56].
هذا بيان جزاء أصحاب الشمال وبيان سببه الموجب له، أصحاب الشمال، وما أدراك ما هم؟ وأي شيء هم فيه، وأي صفة لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟ وهذا فيه معنى اللوم وتعظيم المصاب. هم في ريح يابسة، لا بلل معها، شديدة الحرارة، ويشربون الماء المغلي، ويتظلّلون بدخان جهنم الشديد السواد، ليس باردا كالظلال الباردة عادة، ولا حسن المنظر ولا نافعا، وكل ما ليس فيه خير، فهو ليس بكريم، أي ليس للظلال صفة مدح، فهو سيّئ الصفة، وهم فيه مهانون.
وأصحاب الشمال: مبتدأ، وقوله: {ما أَصْحابُ الشِّمالِ} مبتدأ وخبر، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
وأسباب هذا العذاب ثلاثة أشياء:
أنهم كانوا في الدنيا مترفين، أي يتنعمون في سرف وتخوض، وكانوا يصرّون على الذنب العظيم، وهو الشّرك والوثنية، وكانوا ينكرون البعث، فيقولون: كيف نبعث بعد الموت، وبعد الصيرورة ترابا وعظاما بالية أو نخرة؟
والمترف: المنعم في سرف وخوض في الباطل. ويصرّون: معناه يعتقدون اعتقادا لا ينوون عنه إقلاعا. والحنث: الإثم، ومنه حديث البخاري ومسلم وابن ماجه والنّسائي وأحمد: «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا كانوا لهما حصنا حصينا من النار». أي لم يبلغوا الحلم الذي يتعلق به السؤال عن الآثام.
والمراد بالإثم: هو الشّرك، وهذا هو الظاهر. وقوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} العامل فيه: فعل مضمر، تقديره: أنبعث أو أنحشر؟ ولا يعمل فيه ما بعده، لأنه مضاف إليه.
فردّ اللّه تعالى على إنكارهم الآخرة، فقال: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} أي قل لهم أيها الرسول: إن المتقدّمين من الأمم والعالم كله محشورون مبعوثون ليوم معلوم مؤقت. والميقات: مفعال من الوقت، كميعاد من الوعد.
ثم خاطب اللّه كفار قريش ومن كان على حالهم بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)} أي إنكم معشر الضّالّين عن الحق، الذين أنكرتم وجود اللّه وتوحيده، وكذّبتم رسله، ستأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر والطعم، حتى تملؤوا بطونكم، لشدة الجوع. ثم إنكم سوف تشربون على الزّقوم عقب أكله، من الماء الحار، لشدة العطش، ويكون شرابكم منه كشرب الإبل العطاش، التي لا تروى لداء يصيبها، حتى تموت. والهيم: الإبل العطاش الظّماء.
وشرب بضم الشين: إما مصدر، أي كالشرب الحاصل من الإبل، وإما إنه اسم لما يشرب، أي شراب الإبل.
وهذا الذي وصفنا من المأكول والمشروب، من شجر الزقوم، وشراب الحميم هو- على سبيل السخرية والاستهزاء- ضيافتهم عند ربّهم يوم حسابهم، وهو الذي يعدّ لهم ويأكلونه يوم القيامة ساعة قدومهم. والنّزل: أول ما يأكل الضيف. ويوم الدين: يوم الجزاء. وهذا خلافا لجزاء أهل الإيمان، كما جاء في آية أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 18/ 107] أي ضيافة وكرامة.
إن سوء هذا المصير لأهل الشّمال وهم الكفرة الظالمون واضح السبب: وهو انهماكهم في شهوات الدنيا، وشركهم، وإنكارهم البعث أو اليوم الآخر، وهذا الإنكار مصدر كل شرّ، لأن من آمن بالحساب، خافه، ومن كفر بالحساب اقتحم المهالك من غير تقدير العواقب الوخيمة.
من أدلة إثبات القدرة الإلهية على البعث:
كلما وصف اللّه تعالى إنكار المشركين للبعث، أعقبه بإيراد الأدلة الكافية على القدرة الإلهية الخارقة الكافية على تحقيق هذا الأمر، من واقع الناس وأحوالهم التي تحيط بهم، من خلقهم ورزقهم والإنعام عليهم، وخلق السماوات والأرض، وإحياء الأرض بالنباتات. والبعث ما هو إلا إعادة خلق هيّن على اللّه تعالى الذي لا يعجزه شيء صغير أو كبير في الأرض ولا في السماوات، فمن لاحظ كل هذا سهل عليه إدراك كيفية البعث الداخل تحت الأمر التكويني السريع: (كن فيكون). وهذه بعض أدلة القدرة الإلهية في الآيات الآتية:


{نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 56/ 57- 74].
هذه أدلة واقعية محسوسة على قدرة اللّه تعالى، فلقد ابتدأنا خلقكم أول مرة، بعد العدم، فهلا تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والعمل الصالح، وتقرون بأن من قدر على الخلق، قادر على الإعادة بطريق الأولى؟
أخبروني عما تقذفون من المني في الأرحام، أأنتم تخلقونه بشرا سويّا، أم نحن الخالقون الموجدون له؟! وهذا حضّ على التصديق على وجه التقريع. فلا يخفى على أحد ما يوجد في المني من عمل وإرادة وقدرة.
نحن قسمنا الموت بينكم ووقّتناه لكل فرد منكم، فمنكم من يموت كبيرا، ومنكم من يموت صغيرا، والكل سواء في الموت، وما نحن بمسبوقين يسبقنا أحد على أن نبدّل بكم غيركم، فتموت طائفة ونبدّلها بطائفة، وهكذا قرنا بعد قرن، وننشئكم بأوصاف لا يصلها علمكم، ولا تحيط بها أفكاركم. وهذا وعيد يستوجب العظة والعبرة. وهو دليل على كذب المكذبين بالبعث، وتصديق الرّسل في الحشر.
ودليل آخر: أنه قد علمتم أن اللّه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم على مراحل وأطوار، من نطفة، فعلقة، فمضغة، فهيكل عظمي، فإكساؤكم باللحم، وجعل لكم السمع والبصر والفؤاد، فهلا تتذكرون قدرة اللّه تعالى على النشأة الأخرى، وتقيسونها على النشأة الأولى؟! وهذه الآية نص في استعمال القياس والحضّ عليه.
ودليل آخر: أخبروني عما تحرثون من الأرض، وتطرحون فيه البذر، هل أنتم أوجدتموه زرعا ونباتا كاملا فيه السنبل والحب، بل نحن الذين ننبته في الأرض ونصيّره زرعا تامّا؟ بل أنت يا ربّ.
لو أردنا أن نجعل هذا الزرع يابسا أو هشيما متكسّرا لفعلنا، فصرتم تتعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين: إننا لخاسرون مغرمون. والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزاقنا.
وبعد المأكول يكون المشروب، أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تصدقون بالبعث بعد هذا الإيجاد؟! لو أردنا أن نجعل هذا الماء ملحا لا يصلح للشرب ولا للزرع، لفعلنا، فهلا تشكرون نعمة اللّه الذي خلق لكم هذا الماء عذبا فراتا زلالا، تشربون منه، وتنتفعون به؟! ثم ذكر النار أداة الطّهي والإنضاج، فهل رأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي تقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟
نحن جعلناه هذه النار تذكرة لكم بحرّ نار جهنم الكبرى، ليتّعظ بها المؤمن، وينتفع بها المقوون، أي المسافرون الضاربون في البوادي، والأراضي القفر. فنزّه اللّه تعالى القادر على خلق هذه الأشياء أيها النّبي وكل مخاطب بالقرآن، حيث أوجد هذه الأشياء المختلفة المتضادة، من إيجاد عنصر الرطوبة بالماء، وعنصر الحرارة بالنار، ومادة الملوحة في البحار والمحيطات.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، فقالوا: يا رسول اللّه، إن كانت لكافية؟ فقال: إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».
إثبات النّبوة والوحي القرآني:
أقسم اللّه تعالى بمساقط أو مواقع النجوم على أن القرآن كتاب كريم، مصون في كتاب محفوظ، وهو اللوح المحفوظ، منزل تنزيلا من ربّ العالمين، والشّك فيه شكّ ساقط لا قرار له. لذا وبّخ اللّه تعالى المشركين على عقيدتهم الباطلة بإنكار توحيد اللّه وتكذيب رسوله، وإنكار المعاد. ثم ذكر اللّه تعالى أحوال الأصناف الثلاثة الذين بدئت بهم سورة الواقعة، وهم السابقون المقرّبون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وجزاء كل فريق يوم القيامة، وهذا هو الحق الثابت الذي لا شك فيه، فيقتضي التوجّه للآخرة وتنزيه اللّه عن كل نقص، كما تقرر هذه الآيات:


{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة: 56/ 75- 96].
أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها اللّه، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75)} حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}.
أقسم اللّه تعالى بمواقع النّجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من ربّ العالمين، ومواقع النجوم: مساقطها عند الغروب. وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.
والضمير يرجع إلى القسم المفهوم، من الكلام المتقدّم. والمقسم عليه هو أن هذا القرآن الذي نزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لكتاب كثير المنافع والفوائد، لما فيه من: العلم والهدى والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وجاء القسم هكذا: {فَلا أُقْسِمُ} بالنّفي، والمراد: أقسم، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل (أقسم) كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه، فيفيد التأكيد، أي كأنه تعالى يقول: فلا صحة لما يقوله الكفار. فتكون (لا) نافية، في رأي بعض النحويين، وقال بعضهم: هي زائدة، والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع أمر معروف.
وقال آخرون: هي مؤكدة، تعطي في القسم مبالغة، وهي كاستفتاح كلام، مثل: (فلا وأبي، أي فو أبي).
وبعد أن وصف اللّه القرآن بأنه كريم، أي كثير المنافع، وصفه بثلاث صفات أخرى وهي: أنه محفوظ في اللوح المحفوظ، لا يطّلع عليه إلا الملائكة المقرّبون وهم الكروبيون. ولا يمسّه في السماء إلا الملائكة الأطهار، وكذلك لا يمسّه في الدنيا إلا المطهّرون من الحدثين الأصغر والأكبر، وهو منزّل تنزيلا متدرّجا من اللّه تعالى، فليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر ولا قول بشر، بل هو الحق الثابت الذي لا مرية فيه.
وقال جماهير العلماء: لا يمسّ المصحف من بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر، وفي كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعمرو بن حزم- الذي أخرجه عبد الرزاق وأبي داود وابن المنذر، عن عبد اللّه بن أبي بكر- «ولا يمسّ القرآن إلا طاهر».
ثم وبّخ الله تعالى الكفار المتهاونين في شأن القرآن، فقال: { أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ} أي أبهذا القرآن الموصوف بالصفات الأربع السابقة أنتم متهاونون، يلاين بعضكم بعضا، ويتبعه في الكفر؟ وتجعلون شكر رزقكم من السماء: وهو المطر، أو من الأرض: وهو الزرع أنكم تكذبون بنعمة اللّه وبالبعث وبما دلّ عليه القرآن، فتضعون التكذيب موضع الشكر؟ وهذا توبيخ للقائلين في المطر: هذا بنوء كذا وكذا، كالأسد والجوزاء وغير ذلك.
وتوبيخ آخر للمشركين، فهلا إذا وصلت الروح الحلق حين الاحتضار، وأنتم ترون بالعين المحتضر قد قارب فراق الحياة، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت، ونحن بالعلم المحيط أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبض روحه. والمراد التأمّل والنظر في أن اللّه مالك كل شيء.
فهلا إن كنتم غير محاسبين أو غير مملوكين ولا مجزيين في عالم البعث والحساب، تمنعون موته وترجعون الروح التي بلغت الحلقوم (مجرى الطعام) إلى مقرّها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم لن تبعثوا. وهذه الحال: هي نزاع المرء للموت. والمدين: المملوك في الأصح.
ومصائر الناس عند احتضارهم وبعد وفاتهم أصناف ثلاثة:
1- فأما إن كان المتوفى من السابقين المقرّبين: وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبّات، وتركوا المحرّمات والمكروهات وبعض المباحات، فلهم استراحة ورحمة وطمأنينة وهو الروح، ورزق حسن للبدن وهو الريحان أو الطيب، وجنة نعيم للروح والجسد، أي إن المرء من السابقين يلقى عند موته روحا (رحمة وسعة)، وريحانا (وهو الطّيب) وهو دليل النّعم، أو هو كل ما تنبسط إليه النفوس.
2- وأما إن كان المتوفى من أهل اليمين: وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فتبشرهم الملائكة قائلين: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي ليس في أمرك إلا السّلام والنّجاة من العذاب.
3- وأما إن كان المتوفى من المكذبين بالحق والبعث، الضّالّين عن الهدى، وهم أصحاب الشمال، فإن ضيافتهم ساعة لقائهم ماء شديد الحرارة ثم تصلية في جهنم.
إن هذا الخبر لهو محض اليقين وخالصة والحق الثابت الذي لا شكّ فيه، فأعرض عن أقوال الكفار، وأقبل على أمور الآخرة، وعبادة اللّه تعالى.

1 | 2